المؤمن الذي حـن إلى الحج وعزم عليه..ووصية أتمنى من الله أن يحقق فيها مقصدي؛ فتثمر ثمارها..

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله......

مع اقتراب شهر الحج ، وقبل أن يلوح نوره ، أتوجه إليك أختي المسلمة الحاجة بهذه الكلمات.. وما هي إلا نبضات تتدفق لك من قلبي، عساها أن تلامس قلبك المؤمن الذي حـن إلى الحج وعزم عليه..ووصية أتمنى من الله أن يحقق فيها مقصدي؛ فتثمر ثمارها..

أقدمها لأخواتي المسلمات قبل الشروع في هذه الرحلة الإيمانية؛ وذلك لما أتمناه لهن من خير يحصل لهن حين يغتنمن هذا الركن الخامس من أركان الإسلام خير اغتنام، وحين يؤدينه وفق هدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وأيضا لما رأيت من تقصير بعضهن في استشعار عظمة النسك والمكان؛ فضعف لديهن تحقيق قول الله تعالى :{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}سورة الحج ، والشعائر : الأوامر والنواهي ، وأعلام الدين الظاهرة.

أقول لك أيتها الموفقة ، يا من عزمت على أداء فريضة الحج ، وكتبه الله لك ، في حين أنه قد حُرم كثير من المسلمين ممن تتقطع قلوبهم ، إما لمرض أو عجز أو فقر، أو مشقة سفر، أقول لك ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى :{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} سورة إبراهيم :" وليس من أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف .. والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار"؛ فصدق وربي إنها بقعة تتقطع دونها أعناق المسلمين ، وتنتهي عندها آمالهم في الدنيا والآخرة .

وقد جاءت النصوص الصحيحة غنية تعلي من شأن هذا المقام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه)أخرجه البخاري ومسلم .وفي رواية للترمذي : ( غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه ) . صححه الألباني في صحيح الترمذي. ومعنى قوله: (وَلَمْ يَفْسُقْ ) أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِسَيِّئَةٍ، وَلا مَعْصِيَةٍ .
وَمَعْنَى ( كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) : أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب .


أي فضل ، وأي منّة ، وأي كرم ، يتكرم بها عليك ـ سبحانه ـ فالحج موسم عبادة من أجل العبادات ، وقربة من أعظم القربات ، تصفو فيه النفوس ، وتحلق فيه الأرواح ، مخلفة وراءها جواذب الحياة المادية، ومؤثرة ما عند الله من النعيم ..

بهذا الركن العظيم تمحى الخطايا والآثام؛ فأنيبي إلى ربك المنعم القدير ، وأخبتي له، و ليمتلئ قلبك غبطة وحمداً على نعمة التيسير ، وعلى أن فسح لك في عمرك وعافيتك، ومهد لك سبل الحج .

إن سفرك هذا هو سفر إلى الله، وانتقالك هو إلى بقعة من أحب بقاع الأرض إلى رب الأرض والسموات؛ فتلك البقاع الطاهرة: ابتداءً من بيته المعظم مهد التوحيد وحصنه، أول بقعة وضعت في الأرض ليُتعبد فيها بالركع والسجود لرب العالمين، طهرها إبراهيم الخليل عليه السلام، إلى المشاعر المقدسة: منى، وعرفات، ومزدلفة.

ليكن لهذا اللقاء تعظيم ورهبة في قلبك قبل المسير إليه ، وتخيلي لو أنك مسافرة إلى والدك في ديار بعيدة، وهو بشوق إليك وأنت بشوق إليه، كم سيطير قلبك، وتحلق روحك فرحاً لذلك اللقاء؟ وماذا ستحملين له من هدايا تبهج نفسه؟ بل ستعدين الأيام عداً لرؤيته ، وكم ستغمرك السعادة عند لقائه ؟..........

ولله المثل الأعلى يا أختي.. فأنت مسافرة إلى العزيز الرحيم الذي خص لنا هذا اللقاء بفضله ، لقاء مع ملك الملوك ..

أياما معدودات في رحابه تعيشين ، وتحت ظلال رحمته تتنعمين ، تغتسلين فيها من أدران الذنوب .. لكل يوم طعم خاص، ولذة متميزة لا تساويها لذة ، ونعيم لا يعدله نعيم .

أيام سماها الله معدودات؛ يغمرك الكريم سبحانه بفضله ومنته وكرمه ، يباهي الله بك وبحجاج بيته ملائكته الكرام ، فما أعظمه من شرف ، وما أرفعه من تكريم !

إذاً؛ كوني من الشاكرين، فقد أحسن الله إليك بغير سابق إحسان منك؛ فجهزي العدة التي تليق بذلك المقام !

عليك بسلامة الباطن والظاهر ، وتطهير القلب وتطييبه من الغل والحقد والحسد، وسؤال الله السلامة من النفاق والرياء؛ وليكن منسك الحج خالصا لربك ليس لأحد نصيب فيه، قال تعالى :

{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)}سورة الأنعام.

ولتكوني راحلة إلى ربك في رحلة ربانية، يلتقي فيها ضعفك بقوته جل جلاله، وذُلك بعزه سبحانه، وفقرك بغناه أكرم الأكرمين.

أختي الحاجة..الست بحاجة لخالقك ؟ أما أنت بشوق إليه ؟ أما قد ملأ قلبك الهموم والأحزان ؟ أسئلة عجيبة ... هل يستطيع مؤمن أن يستغني عن خالقه وفاطره ؟

لا وربي كلنا شوق إليه ، وجميعنا محتاجون إليه في ليلنا ونهارنا وحضرنا وسفرنا ، ومضطرون لأن يحقق رجاءنا، ويشفي صدورنا وأبداننا ، ويجلي أحزاننا .

وها قد علمت أنه – سبحانه - اصطفاك من بين ملايين البشر لتدعو ربك في أعظم أرض من أراضي الدنيا أرض عرفات ، وفي أعظم أيام الدنيا !

إذاً؛ حققي معنى العبودية له في هذا النسك في كل صغيرة وكبيرة ..

أعلني توحيدك لعلام الغيوب، فإذا سألت ..فلا تسألي إلا الله، وإذا استعنت فلا تستعيني إلا بالله ..فلا تدعي ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا عبدا صالحا؛ لأنه هو الغني والناس فقراء إليه، ولأنه القادر والناس ضعفاء بين يديه؛ فهو المستغاث وعليه التكلان،{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}سورة الإسراء.

لبي تلبية نابعة من أعماق قلبك، تعلني فيها خضوع قلبك وعقلك وسائر جوارحك لشريعة ربك اللطيف بك، الخبير بما يصلح حياتك، واعلمي أنها منفردة لك، ولاتباع نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا ) رواه الترمذي وابن ماجه. ومعنى تنقطع الأرض كما قال كثير من أهل العلم: أي منتهى الأرض من جانب الشرق، ومنتهى الأرض من جانب المغرب. يعني: يوافقه في التلبية كل رطب ويابس في جميع الأرض.


يا ألله ما أكرمك ، وما أعظمك ، وما أرحمك بنا ، فتجاوز عن غفلتنا وتقصيرنا .

اعزمي – أختي الحاجة - على مرضاته سبحانه، كوني حصيفة لبيبة ، واعلمي أن لكل طريق زاد وعدة؛ فخططي كيف ؟ كيف ستكون أيامك هناك ، بل كيف ستكون ساعاتك ، ودقائقك، وماذا ستحملين معك من زاد ؟

ستقولين: ماذا أحمل معي ؟

احملي غذاء الروح ، مصحفك؛ ليكون قرينك في تلك الرحلة ، قال إبراهيم النخعي رحمه الله عن حال السلف في الحج:" كان يعجبهم إذا قدموا مكة ألا يخرجوا منها حتى يختموا القرآن"، وجددي حياتك معه،{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}سورة الإسراء.

احملي كتيب أذكارك؛ لتذكري الله قاعدة ، وقائمة ، وراكبة ، وعلى جنبك ..

احملي خمار صلاتك، وعاهدي ربك على أن تكون صلاة متميزة: تختلف بخشوعها ، وخضوعها، والاستمرار على ذلك.

احملي سترك وعفافك، في ملابسك الساترة .

اجعلي مظهرك محتشما؛ لتؤكدين إيمانك النقي ، نقاء قلبك وملابس إحرامك النظيفة.

عظمي حرمات الله؛ قال مجاهد رحمه الله في قوله :

{ ..ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ .. (30)} سورة الحج، "الحرمات: مكة، والحج، والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها". ويقول الشيخ السعدي رحمه الله :"تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة المقربة إليه؛ التي من عظمها وأجلها أثابه الله ثوابا جزيلاً، وكانت خيراً له في دينه ودنياه وأخراه عند ربه".

الزمي قلبك وجوارحك التأدب الواجب مع هذه الفريضة قبل قدومك، ولتكن طاعة مطلقة ، وانقياد تام، رحلة إيمانية تحملين فيها قلبك المشتاق، وسياحة روحانية مليئة بالطاعات، وابشري فلقد قدمت على رب كريم، وعلى إله قريب ودود .

قدمي طاعة الله ورسوله على طاعة النفس الأمارة بالسوء..ولتكن أعمال الحج مما يترك أثره البالغ في حياتك ظاهرا وباطنا..

قفي مع نفسك حين تقفين بعرفات..وحاسبيها بصدق..كيف أنت مع الاستجابة لله في لباسك وزينتك؟ هل أنت سهلة الانقياد لجاذبية الموضات والصيحات العالمية مما لا يتفق مع لباس المسلمة المحتشمة، والتي باتت مصدر بلاء ممن لا يريدون بالمسلمة خيراً.

قفي مع نفسك أختي المسلمة الحاجة بصدق، وسليها: هل التهاون في لبس الجلباب، والذي يحجب جمال جسدك وزينته، وجمال ملابسك عن أعين الرجال، يليق بمسلمة تؤمن بقول ربها :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}سورة الأحزاب.

ومثله أقول للأخت المسلمة التي ترتدي العباءة المزركشة، والمطرزة؛ الجذابة للأنظار، والملفتة لانتباه الرجال!!

إني لأرجو من بعض أخواتي المسلمات الحاجات..أن يقفن بصدق مع ملابسهن الضيقة من بنطال وغيره، والتي تصف أعضاء الجسم إلى حد الشكل الداعي إلى الفتنة..

قفي أختي مع نفسك بصدق وتجرد..هل هذا لباس يرضي الله تعالى، الذي أمرك بالحجاب؟!

هل هذا اللباس يحفظك من أعين الرجال، ويعرضك لأذى من أصابته سهامك فحركت الشهوة في نفسه؟..

تذكري أختي الكريمة قول حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم: " صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ؛ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا" رواه مسلم، وأعيذك بالله أن تكوني منهن.

لا تطوعي الستر والحجاب لهواك وأهواء أهل السفور، بل اجعليها طوعا لشرعك المطهر؛

فنبيك الحبيب يقول: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) حسنه النووي في الأربعين.

استمعي إلى هذا الحديث المبشر واجعلي حجك كذلك :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ) متفق عليه.

ومعنى المبرور: هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية.

اجعليها أياما معمورة بذكر الله جل جلاله تسبيحا وتهليلا وتكبيراً ..

نفذي قول العزيز العليم:{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .. (203)}سورة البقرة.

ابحثي عن صحبة خير النساء حولك، وليكن ذلك ديدنك في باقي حياتك؛ لأنهن خير رفقة تعنك على طاعة مولاك، وابتعدي عن صحبة تكثر الضحك والمزاح، وكثرة الكلام، وقطع الليل في السهر واللهو، وقتل الوقت بأحاديث الدنيا.

لا تدعي قيام الليل في أيام ساعاتها درراً لامعة ، ووزنها كالذهب أو أغلى ، فقلوبنا عطشى ولا تروى إلا بمجانبة الخلق ، والإنس بالخالق .

كوني ممن قال الله فيهم :

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} سورة الزمر.


سبحان من هو أنسي إن خلوت به * في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر

أنت العظيم وأنت الحب يا أملي * من لي سواك ومن أرجوه يا ذخــري


ونهاية المطاف !

ابيضت الصفحة؛ فاحذري أختي الكريمة الانغماس في لهو الدنيا..احفظي الله في قلبك خشية وتعظيما وحبا.. احفظ الله في مشاعرك وأحاسيسك قبولا لشرعه، ورضاً بقضائه وقدره، واعتزازاً بدينك..احفظ الله في زوجك وأسرتك وربيهم على عبادة الله وطلب رضاه..احفظ الله في سمعك وبصرك و نفسك وعفافك وطهرك..احفظ الله في دينك وانصريه بما منحك الله إياه من علم وحكمة ومواهب ..احفظ الله أختي يحفظك..

وتوجهي إلى خالقك بدعاء خاشع: أن يتقبل حجك، ويخرجك منه كيوم ولدتك أمك ، ويصلح لك شأنك كله ، ويهب لك من أمرك رشداً.

ولنستغفر الله من كل ما مس حجنا من عثرات اللسان ، وغفلات الجنان، وألا يجعله آخر عهد لنا بعرفات ، وأن يحفظنا ويحفظ المسلمين من كل مكروه ، فهو المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل .