قال تعالى في وصف نبيِّه مُحمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم:" وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

في وصف نبيِّه مُحمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم:" وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [القلم: 4]، وقال عنه - عزَّ وجلَّ - أيضًا:" لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " [التَّوْبَة: 128].. هكذا قال عنه ربُّه، وهكذا كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حياته، في حركاته وفي سكناته.

وعندما يصف اللهُ سبحانه وتعالى نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالرَّأفة والرَّحمة، سابغًا عليه بعضًا من صفات ذاته العليَّة، فإنَّ هذا يعني أنَّ رسولنا الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد وصل إلى مُنتهى الأمر من الرَّحمة والرَّأفة بمخلوقات الله تعالى، مصداقًا لما فطره الله عزَّ وجلَّ عليه من أنَّه على خُلُقٍ عظيمٍ.

والمُطَّلع على سِيرة النَّبيِّ الأكرم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجد أنَّه كان بالفعل رؤوفًا رحيمًا مع الضُّعفاء، والخدم والرَّقيق، وكان رحيمًا رحمته حتى بالجاهلين والمذنبين والمخطئين في حقِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - والأهم من ذلك أنَّه كان رحيمًا بأمُتَّه، فخفَّف عنها في دُنياها، وحلَّتْ لها شفاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم القيامة.

وتنبُع صفة الرَّحمة لدى الرَّسول - ما جاء في حديث عائشةٍ - رَضِيَ اللهُ عنها -
أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان القرآن يمشي على قدمَيْن - مِن إدراكٍ واعٍ وسليمٍ لنظرة الإسلام إلى النَّفس البشريَّة وإلى الإنسان بشكلٍ عامٍّ بغضِّ النَّظر عن دينه وانتمائِه، ولذلك شَمِلَتْ رحمته - صلَّى الله عليه وسلَّم - غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، كما كان حريصًا على تجنُّب الحرب، وإذا ما كان من الَّلازم خوضِها؛ فقد كان يوصي جنوده بالرَّحمة في التَّعامُل مع الأعداء وبعدم المساس بدور العبادة وبغير المقاتلين من الشيوخ والأطفال والنساء وغيرها من الفئات، كما كان رحيمًا بالأسرى وبزعماء أعدائِه.

وفي سيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - العديد من المواقف التي توضِّح صفة الرَّحمة هذه، سواء على المستوى الفرديِّ أو على مُستوى أُمَّتِه، ومن بين هذه المواقف أنَّ أعرابيًّا جاءه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يطلب منه شيئًا، فأعطاه: ثم قال له: "أحسنت إليك؟"، فقال الأعرابي: لا أحسنت ولا أجملت، هنا غضب المسلمون وقاموا إليه، وكادوا أنْ يقتلوا الرَّجُل، فما كان من النَّبيِّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلا أنْ طلب منهم أنْ يكفُّوا أيديَهُم عنه.

ثم قام - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي، وزاده شيئًا على ما أعطاه سلفًا، ثم قال: "أحسنت إليك؟"، فقال الأعرابيُّ: نعم؛ فجزاك الله مِن أهلٍ وعشيرةٍ خيرًا، فقال له النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم:" إنَّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي مِن ذلك فإنْ أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدَيَّ حتى يذهب ما فى صدورهم عليك"، قال الأعرابى: نعم.


وفي اليوم التَّالي، جاء الأعرابي، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم:" إنَّ هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضى كذلك؟"، قال الأعرابى: نعم، فجزاك الله مِن أهلٍ وعشيرةٍ خيرًا، فقال النَّبيُّ - عليه الصلاة والسَّلام - شارحًا حكمته من هذا الموقف:" مَثَلِي ومثلُ هذا مِثل رجلٍ له ناقةٌ شردت عليه فاتبعها النَّاس فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحبها: خلُّوا بيني وبين ناقتي فإنِّي أرقُّ بها مِنكم وأعلم فتوجَّه لها بين يديَهْا فأخذ لها مِن قمام الأرض فردَّها حتى جاءت واستناخت وشدَّ عليها رحلَها واستوى عليها وإنِّى لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النَّار".

في هذا الموقف بلغ من رحمة الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه فضَّل تحمُّل إساءة الرَّجل الأعرابيِّ إليه، على أنْ يدخلَ الرَّجلُ النَّار.

وفي موقف آخر من حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن بكائِه لما رأى أسامة بن زيدٍ بن حارثة - رَضِيَ اللهُ عنهما - بعد استشهاد هذا الأخير في غزوة مؤتةٍ، روى ابن مسعودٍ أنَّه لمَّا قُتِل زيدٌ بن حارثة، أبطأ أسامة عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يأته، ثم جاءه بعد ذلك، فقام بين يدَيْ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدمعت عينا أسامة - رَضِيَ اللهُ عنه - فبكى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال لأسامة: لمِ أبطأت عنَّا ثم جئت تُحزِنُنا؟".


ثُمَّ قال أسامة أنَّه لمَّا كان الغد جاء النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما رآه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مقبلاً قال: "إنِّي للاقٍ منك اليوم ما لقيت منك أمس"، فلما دنا دمعت عينا أسامة بن زيد - رَضِيَ اللهُ عنهما - فبكى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ولم تكن تلك مواقفَ فرديَّةً في حياة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو يدلُّ على أمرٍ عاديٍّ لديه، ولكنَّه ينطلق من مُكوِّنٍ أخلاقيٍّ ثابتٍ وأكثر عموميَّةً لدى نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ففي صحيح مسلمٍ ورد أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلا قول الله - عز وجل - في إبراهيم:" رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [إبراهيم: 36]، وقول عيسى عليه السَّلام:" إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " [المائدة: 118]، فرفع - صلَّى الله عليه وسلَّم - يديه وقال:" الَّلهم أُمَّتي أُمَّتي"، وبكى، فقال الله - عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك؟، فأتاه جبريل - عليه الصَّلاة والسلام - فسأله، فأخبره رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.

وهناك العديد من الدُّروس المستفادة من مثل
هذه المواقف من حياة الرَّسول الأعظم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولعلَّ أهمُّها أنْ يكون المُسلم في صفاته وسلوكه أقرب إلى خُلُقِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكي يكون خير سفيرٍ للإسلام أمام الآخر؛ حيث إنَّ أفضلَ وسيلةٍ للدَّعوة هو أنْ يُقدِّم الإنسان المسلم النموذج الصَّالح أمام الآخرين.

أمَّا الدَّرس الثَّاني فهو فهو أنَّ في تلك المواقف أبلغ ردٍّ على محاولات تشويه صورة الإسلام والمُسلمين، واتهامهم بالإرهاب، وهو ما يتطلَّب من كلِّ مسلمٍ أنْ يبذل أكبر جهده من أجل العمل على نقل هذه المعاني وهذه الصُّور إلى من يفتئون على ديننا وعلى نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم.[/b]