موضوع اخر عن الصبر والشكر

ومن خلال هذا الشرح ، أسأل الله أن يكون قد تبين كيف تكون حياة المؤمن كلها خيرا ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وعنا بفضلك ومنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين .


إن الحمد للـه نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده اللـه فلا مضل لــه ، ومن يضلل فلا هادي لــه ، وأشهد أن لا إلـه إلا اللـه وحده لا شريك لـه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسولـه صلى الله عليه وسلم وعلى آلـه وصحابته والتابعين ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين . أمـــــــــــــــــــــا بعد :
فالحمد للـه الذي جعل بعد الشدة فرجا ، ومن الضيق سعة ومخرجا ، ولم يُخْلِ محنة من منحة ، ولا نقمة من نعمة ، ولا نكبة ورزية من موهبـة وعطية . فلا شك أن أحـوال الإنسان – عموما : سواء كان مسلما أو كافرا – تمر بأطوار مختلفة ، ولا تسير على وتيرة واحدة ، إما أن تمر عليه مسرات ؛ أو تمر عليه مضرات ؛ تأتي عليه أيام رخاء ، وأخرى تكون فيها شدائد :
فيومٌ علينا ، ويومٌ لنـــــا .... ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَـــرّ
وتختلف مواقف الناس تجاه هذه الأمور ؛ تبعاً لدرجة إيمانهم ، فهناك فرق شاسع بين المؤمن وغيره ؛ فغير المؤمن في حالة السراء يبطر ويطغى ويتجبر ، وقد يصل الواحد منهم من كثرة تتابع النعم عليه إلى أن ينكر وجود اللـه أصلا – والعياذ باللـه - ؛ وإذا مرت به ضراء تسخّط وجزع إلى أن يصل إلى درجة قد ينكر وجود اللـه أيضا . قال تعالى : ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللـه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ سورة الحج: الآية 11
تفسيرها : قال السعدي : ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالطه بشاشته ، بل دخل فيه إما خوف ، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن ، إن استمر رزقه رغدا ولم يحصل لـه من المكاره شيء ؛ اطمأن بذلك الخير – لا إيمانا - ، فهذا ربما أن اللـه يعافيه ولا يقيض لـه من الفتن ما ينصرف به عن دينه ، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه أو زوال محبوب ، ارتد عن دينه ، خسر الدنيا بردته وفي الآخرة بحرمان الجنة .. نسأل اللـه السلامة والعافية.
وفي المقابل حال المؤمن، فهو يختلف عن ذلك اختلافا كبيرا، بل اختلافا تاما، فحياة المؤمن كلـها خير، وهذا الأمر يتعجب منه الإنسان ؛ كيف تكون حياة المؤمن كلـها خير ؟ مع أننا نعلم أنه لا يوجد خير لا شر فيه إلا الجنة !! ولا يوجد شر لا خير فيه إلا النار !! . ولكن رسول اللـه صلى الله عليه وسلم يوضح لنا في حديث من أحاديثه الشريفة أن حياة المؤمن كلـها خير ؛ حيث يقـول صلى الله عليه وسلم - في الحـديث الذي يرويــه عنه أبـو يحيى صهيب رضي الله عنه - قال : قال رســول اللـه صلى الله عليه وسلم: ] عجبا لأمر المؤمن إن أمره كلـه خير ؛ - وليس ذلك لأحد إلا المؤمن - : إن أصابته سراء شكر فكان خيرا لـه ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا لـه [ . رواه مسلم .
والحديث أيضا في مسند الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه قال : قال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم : ] عجبت للمؤمن ؛ إذا أصابه خير حمد اللـه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد اللـه وصبر ، فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعا إلى فيّ امرأته [ . قال أحمد شاكر : إسناده صحيح . وفي لفظ عند أحمد : ] عجبت من قضاء اللـه عز وجل للمؤمن ؛ إن أصابه خير حمد اللـه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيّ امرأته [ . قال أحمد شاكر : إسناده صحيح . وفي رواية : ] عجبت للمؤمن إن أصابه خير حمد اللـه وشكر ، وإن أصابته مصيبة احتسب وصبر . المؤمن يؤجر ف كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه [ . قال أحمد شاكر : إسناده صحيح .
استفتح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بأسلوب مشوق يشد القلوب ، فقال : ] عجبا [ ، وممّ يتعجب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟؟ يتعجب من أمر المؤمن ، والتعجب كما يكون عن رضا واستحسان يكون عن إنكار واستهجان ، فكل أمر يشذ عن عادة أمثالـه في درجة الحسن أو القبح أو اللذة أو الألم يثير في النفس العجب ، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يربط الأمر بالمؤمن فمعناه : أنه ليس تعجب استهجان واستنكار ، بل هو تعجب رضا واستحسان وارتياح ... ]المؤمن [ أي : كامل الإيمان ، وهو العالِم باللـه . ] كلـه لـه خير [ ، قدّم ] لـه [ للاهتمام ، و ] خير [ في المآل ، وإن كان بعضه شرا صوريا في ] الحال [ . هنا يزداد التشوق من السامع ، ويزداد التعجب ؛ كيف يكون أمره كلـه خيرا ؟ فنحن نعلم أن حياة المؤمن تتقلب بين خير وشر ، وبين سرور وحزن ، وبين رخاء وشدة ، فكيف تكون حياة المؤمن كلـها خيرا ؟ ؟
والخير : هو ما يرغب فيه الكل ؛ كالعقل مثلا ، والعدل ، والفضل ، والشيء النافع . وضده الشر .. والخير ضربان : مطلق ، ومقيد :
خير مطلق : وهو أن يكون مرغوبا فيه كل حال ، وعند كل أحد ، كما وصف صلى الله عليه وسلم به الجنة فقال : ] لا خير بخير بعد النار ، ولا شر بشر بعده الجنة [ .
وخير وشر مقيدان : وهو أن يكون خيرا لواحد ، وشرا لآخر ، كالمال الذي ربما يكون خيرا لزيدٍ ، وشرا لعمروٍ ، ولذلك وصفه اللـه تعالى بالأمرين ، فقال في موضع : ] إِنْ تَرَكَ خَيْراً[ سورة البقرة: من الآية180 .
وقال في موضع آخر :
] أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لـهمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [
سورة المؤمنون: الآيتان : 55-56 .
أي : زيادتنا إياهم في الأموال والأولاد .
ويزيد القلب إثارة وتشوقا أسلوبه صلى الله عليه وسلم حينما قال : ] وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن [ ، مظهر وقع موقع المضمر يشعر بالعلة على وجه التصريح ، فإنه آكد من التلويح . فهذه خصوصية للمؤمن . وأي مؤمن ؟؟ المؤمن راسخ الإيمان . المؤمن كامل الإيمان . ذلك هو الذي حياته كلـها خير . وكيف ذلك ؟؟ فإيمانه الكامل سبب خيريته في كل حال .
وجاء في حديث آخر ما يفيد هذه الخصوصية لـهذه الأمة ، قال أبو الدرداء : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ] إن اللـه عز وجل يقول : يا عيسى ، إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا اللـه وشكروه ، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم . قال : يا رب كيف هذا لـهم ولا علم ولا حلم ؟ قال : أعطيهم من حلمي وعلمي [ . حم 6/450، ك / 348 . لم يكن عندهم حلم ولا علم ، لكن اللـه عز وجل يعطيهم من حلمه وعلمه .
ويقول صلى الله عليه وسلم: ] إن أصابته سراء شكر فكان خيرا لـه ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا لـه [ ، فكل ما يصيب الإنسان من سراء أو ضرء ، فهو نعمة ، إن كان يسره فهو نعمة بينة ، وإن كان يسوؤه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه ، ويثاب بالصبر عليه .
ومن جهة أنه حكمة ورحمة لا يعلمها إلا اللـه ، قال تعالى : ] وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ البقرة: من الآية216 .
فكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر ، أما نعمة الضراء فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، فالشكر في البلاء بالقيام بحق اللـه في تلك البلية ، فإن للـه على العبد عبودية في البلاء كما لـه عليه عبودية في النعماء .
وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية ، فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء ، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ] ابتلينا بالضراء فصبرنا ، وابتلينا بالسراء فلم نصبر [ ، وفي الحديث : ] وأعوذ بك من فتنة الفقر ، ومن شر فتنة الغنى [ . واللـه سبحانه وتعالى يقول : ] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [ الأنبياء: من الآية35 .
أي : نختبركم بالمصائب تارة ، وبالنعم تارة أخرى ، فننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ، ومن يغتظ ، فكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر ، ولكن لما كان في السراء اللذة ، وفي الضراء الألم ؛ اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء . وصاحب السراء أحوج إلى الشكر ، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر ، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب ، وإذا تركه استحق العقاب ، ثم إن العبد في كل حال محتاج إلى الصبر والشكر ، أما صبر صاحب السراء فقد يكون مستحبا إذا كان عن فضول الشهوات ، وقد يكون واجبا ، ولكن لإتيانه بالشكر الذي هو حسنات يُغفَر لـه ما يغفر من سيئاته ، وصاحب الضراء لا يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين ، وقد يكون تقصيره في الشكر مما يُغفَر لـه ، لما يأتي به من الصبر ، فإن اجتماعهما جميعا يكون مع تألم النفس وتلذذها ، يصبر على الألم ، ويشكر على النعم ؛ وهذا حال يعسر على كثير من الناس .
والمقصود : أن اللـه تعالى منعم بهذا كلـه ، وإن كان لا يظهر الإنعام به من الابتداء لأكثر الناس ، ] وَاللـه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[ البقرة: من الآية 216 .
فكل ما يفعلـه اللـه فهو نعمة منه ، وما أحسن قول الشاعر :
قد ينعم اللـه بالبلوى وإن عظمت .... ويبتلي اللـه بعض القوم بالنعمِ
قولـه صلى الله عليه وسلم: ] إن أصابته سراء شكر [ .
فما الشكر ؟ وما أهميته ؟ وما منزلته ، وقواعده ، وأركانه ؟ وكيف يكون الشكر الحقيقي للـه تعالى ؟ ولماذا تحصل الغفلة عن الشكر ؟ ..
أسئلة مهمة ، وللإجابة عنها نقول – وباللـه التوفيق - :
إن اللـه سبحانه وتعالى يعطي بغير حساب ، يعطي من لا يستحق العطاء – في نظرنا القاصر – حتى الكفار ؛ فهم يأكلون من رزقه ، ويتنفسون الـهواء الذي أعطاهم ، وهم يكفرون بالرحمن ، فخيره إليهم نازل ، وشرهم إليه صاعد ، وقد جرت العادة أن الإنسان إذا قدّم لأخيه أقل خدمة – ولو سهلة ً- يقول : شكرا لك . فهذا الإلـه الأعظم ؛ قلبك لا يخفق إلا بإذنه ، ورجلك لا تمشي إلا بإذنه ، ويدك لا تبطش إلا بإذنه ، وكل جسمك إنما يتحرك بإذنه . أليس حقا عليك أن تقول : حمداً وشكراً لك يا ربّ ؟‍ . هذه الكلمة إذا خرجت من قلب صادق يرضى اللـه بها .

منقول يا جماعة